by سارة الشيخ علي and مصطفى فؤادMay 23, 2024
Read this article in English here.
الناشطون في المنفى: التحديات، الفرص، التجارب المعاشة
ندوة عبر الإنترنت مقدمة من المركز الدولي للنزاع غير العنيف ومؤسسة HuMENA لحقوق الإنسان والمشاركة المدنية، بدعم من ActionAid الدنمارك.
الجمعة 21 يونيو 2024 من الساعة 17:30 إلى 19:00 بتوقيت وسط أوروبا (اعرف منطقتك الزمنية).
يتحدث هذا النص عن توترات الهوية الثقافية والشخصية في المنفى وارتباط الخاص بالعام. ويقدم شهادات وتجارب حية لأشخاص اضطروا أو اختاروا مغادرة بلادهم، والتحديات التي يواجهونها في التأقلم مع المجتمعات الجديدة.
ففي هذه المدونة الافتتاحية لسلسلتنا "الناشطية في المنفى"، نتعمق في الروايات الشخصية التي تجسد تعقيدات النزوح والبحث الدائم عن الهوية. سارة، في منفاها الطوعي من لبنان، تتأمل في التوازن الدقيق بين النجاة الفردية والجمعية، وتستكشف هشاشة الهوية وتطور نظرتها للعالم. أمّا مصطفى، الذي أُجبر على النفي من مصر، فيشاركنا التراجيديا الشخصية المتمثلة في الحداد على والدته من بعيد، متأملًا التحولات النضالية والسعي الدؤوب لتحقيق العدالة، حتى في مواجهة المنفى.
يمثل هذا البوح الشخصي بداية سلسلتنا "الناشطية في المنفى" بالمشاركة مع منظمة هيومينا لحقوق الإنسان والمشاركة المدنية، التي ستتعمق في التقاطع المعقد بين الناشطية والهوية والتجارب العميقة للمنفى - وهي رحلة تتسم بالبحث المستمر عن المعنى والانتماء
«لم تـنتهِ الطريق لأقول، مجازاً، إن الرحلة ابتدأت. فقد تـُفضي بي نهاية الطريق إلى بداية طريق آخـر. وهكـذا تبقى ثنائية الخروج والدخول مفتوحة على المجهول...وفي المنفى الخارجي أدركت كم أنا قـريـبٌ من بعـيدٍ معاكس، كم أن هـناك كانـت هنا» يقول محمود درويش، الشاعر الفلسطيني المنفي اللاجئ.
يختصر محمود درويش بنصه البديع "المنفى المتدرج"، الأسئلة حول المنفى، علاقته بالعودة، بالانفتاح الدائم على الاحتمالات والمجهول، والعلاقة ما بين المنفى الداخلي والخارجي، ومعنى الوطن والبلاد والعودة، وسؤال الشخصي والعام.
المنفى، هو المفروض والمرغوب، ما نريده لكن ما نخشاه، ما نسعى إليه لكن ما لا نستطيع التأقلم معه، مساحة الحرية الواسعة التي تضيق بضيق اللغة والعبارة والرؤية…وهو كفكرتنا عن البلاد، واسع ومجهول، ونحن لا زلنا في بداية الرحلة، وفي طور البحث عن المعنى. فهل العنف الذي واجهتنا به بلادنا عندما طالبنا بالحقوق وبالحرية هو شرطاً سياسياً وتاريخياً للمنفى، أم أن في المنفى فرصة لنا لإعادة تعريف الهوية المنشقة والذات المشروخة لاعتبارات تتصل بالتجربة الخاصة، باعتباره شكل الهويات السائلة والمرنة التي نصبحها عندما نخرج عن النمط؟
لم يكن المنفى دائماً خياراً، ولم يكن دائماً قسرياً. هو الشخصي الذي يتحول إلى سياسي عام، والعام الذي يغدو شخصياً من فرط التصاقه بأبعاد الهوية الفردية. هو الدائرة غير المكتملة بين المجاز والواقع، بين البلاد ونقيضها، بين الهجرة والعودة، بين السؤال الدائم من أنا ومن هم؟
وقصتينا ليستا إلا انعكاسًا ملموسًا لهذه الأسئلة، وهذا النص الذي نكتبه هنا من أرض الهامش المؤقتة، هو محاولة لن تفضي بالضرورة إلى إجابات.
المنفى الطوعي، سارة:
لم أكن مجبرة على ترك لبنان. فلا براميل متفجرة تسقط فوق المنازل كما في سوريا، ولا طاغية يزجّ بكل خصومه في غياهب السجون كما في مصر...ليس بعد على الأقل. لكن، رغم هذا، لا أمان في بلادي حيث تُقصف مناطق كالجنوب والبقاع، وحرب شاملة تلوح في الأفق، وأحزاب تقليدية رجعية ومسلّحة تتحكّم بمؤسسات الدولة والسلطة والحياة السياسية والاجتماعية. وكل هذا يترافق مع أزمة اقتصادية حادة، وغياب لشبكات الأمان الاجتماعي، وانفلات أمني، وتضييق على الحريات العامة والفردية. وكغيري ممن أدركوا أن قدرتنا على التغيير، نحن الذين اخترنا الخروج عن المألوف والمتعارف عليه، والانشقاق عن الطوائف والأحزاب، متواضعة، اخترت النجاة الفردية. اخترت أن أصنع لي حياةً جديدةً، في بلاد جديدة، بعيدة وباردة.
"سأمحو ركبتي بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو تيار أو مرحلة" يقول محمد الماغوط في كتابه "سأخون وطني" الذي نجح بأن يكون شهادة فاجعة صادقة على مرحلة مظلمة من تاريخ بلاده. وخروجنا نحن المنفيين طوعاً من لبنان ليس إلّا أكلاً للرُكب وتعبيراً مكثفاً عن مرارة الهزائم وغضب العاجز من بلاد المراحل والتيارات، وفقدان الأمل من وطن مُبتلى بسياسيّيه وأحزابه وميليشياته ومؤسساته ونخبه وشرطته وإعلامه.
هل كان هذا الخيار أناني؟ لا أعلم، ربما. لكن البدائل كانت شبه معدومة ولا حلول في أفق البلاد. لكن لا الرحلة ابتدأت ولا الطريق انتهى. كان المنفى بداية طريق تحمل الكثير من الأسئلة الوجودية العميقة والمعاضل الأخلاقية والأزمات الهوياتية.
فأنا هنا، لم أعد فردًا يمثل نفسه، فقد ضاقت الهوية، وصرت المرأة ذات البشرة الملونة، والملامح المتوسطية، واللكنة، والخلفية الدينية والثقافية المختلفة، ولموائدي رائحة توابل وبهارات لا يعرفها أصدقائي الجدد. وصرت أنتمي إلى مجموعة "هم" سواء اخترت ذلك أم لا، وأمثل مجموعة ثقافية محددة وهوية بعينها. وعلى أبناء هذه الهوية كسب رضى البلدية ودائرة الهجرة، ووزارة الخارجية، والمجتمع، والدولة. وعليهم أيضاً متابعة دروس لغة واندماج، وتبرير أنفسهم في كل مرة تقوم مجموعة متطرفة ما، بهجوم إرهابي في بروكسل أو باريس.
على المقلب الآخر، اتسعت الرؤية، وصارت الهوية الضيقة، هوية مركبّة. فهنا في بروكسل أهتف للاجئين ولغزة في المظاهرات دون خوف من أن أهدد "الديموغرافيا"، وأدافع عن حقوق الأتراك والأفغان والأفارقة، وأعترض على تهميش المغاربة في مولنبيك ووصمهم بالرجعية والتطرّف.
فصورة الوطن هنا تتطـور بمفهوم نقيضه، ويفسّر كل شيء بضده، ويصبح البحث عن الدائم مهارةً نكتسبها للتعويض عن المؤقت. وتصبح الهوية هشة، والرؤية هشة، واللغة هشة وجزءًا من أدب الضياع الإنساني كما أسماه درويش، ومحاولةً لفهم التجربة الإنسانية المضطربة في المنفى، تجربةً يشوبها الخوف من حب أشياءً ليست لنا، وامتلاك أشياءً ليست لنا، وتطرفنا في تمجيد مكان نحيا فيه، لكن نخاف أن ندفن فيه. فالبلاد هي هناك، حيث لنا إخوة وشبابيك مفتوحة وذكريات.
لا خيار سوى المنفى، مصطفى:
عصر يوم السبت ٣ ابريل ٢٠٢١ تلقيت ذلك الاتصال المشؤوم، ماتت أمي، في مصر. يعزيني المتصل ويطلب مني الثبات والدعاء لها بالرحمة، وألا أترك نفسي للتفكير في العودة إلى مصر، لعلمه بأن النظام المصري لن يتوانى للحظة في سجني حال عودتي.
في ذلك اليوم أدركت حقًا ما كنت أتفنن في إنكاره، أدركت أنني في المنفى، المنفى بمعناه الأوسع، فأنا غير قادر على دفن أمي. سلبوا مني حق وجودي في وطني، وحقي في تشييع أمي لمثواها الأخير.
قبل ذلك التاريخ بأكثر من ثلاث سنوات كنت قد استطعت الخروج من مصر بصورة عاجلة قبل أن يتم وضعي على قوائم المنع من السفر ومعاقبتي بسبب نشاطي السلمي ومحاكمة ضميري لقوّلي الحقيقة ومحاكمة عملي لكوّني محامي ومدافع عن حقوق الإنسان. فالنظام المصري واضح في التعامل مع خصومه المعارضين، إما السجن أو النفي، وفي الحالتين سيستمر أيضاً التنكيل وذلك باستهداف الأهل في مصر، إمعاناً في الأذى والفٌجر في الخصومة.
مرّ ما يقرب من السبع سنوات وأنا بلا وطن، أتنقل المدينة تلو المدينة والدولة تلو الدولة والمنزل تلو المنزل. أبحث عن مصر في كل مكان ولا أجدها. أبحث عن مصر في فيلم سينمائي مصري يُعرض مدبلج للتركية في اسطنبول، في وجبة بمطعم مصري في ضواحي باريس، في تجمع للمدافعين عن حقوق الإنسان المنفيين في بيروت، أو في حفل غنائي لمطرب مصري في بروكسل. أبحث عن الوطن في كل شيء، ولا أجده.
الكاتبة صوفيا ماكلينين في كتابها "جدل المنفى: الأمة، والوقت، والمكان واللغة" تعرّف المنفى على أنه سلسلة من توترات الهوية الثقافية. وبالفعل، تجبرنا تجربة المنفى على التفكير في أمور كنا نسلم بسكونها داخلنا ونؤمن بها لأقصى درجة. من أنا حقًا؟ هل يجب عليَ التمسك بهويتي/هوياتي أم عليَ الانصهار في المجتمع الجديد كي يتقبلني؟ هل سيتقبلني؟ كيف يمكنني مجاراة ما حولي؟ أي لغة يجب عليّ أن أتعلم؟ هل يمكنني تعلمها أصلاً وأنا بلغت من العمر منتصف الثلاثينيات؟ «أنت لست من القلعة، أنت لست من القرية، أنت لا شيء. ولكن مع الأسف، أنت شيءٌ ما، أنت غريب، أنت شيءٌ زائدٌ يقف عثرةً في كل مكان ويثير المتاعب» يقول فرانز كافكا مصوّراً رد فعل أهل القرية، حتى المتضامنين منهم، على قدوم مسّاح الأرض بطل روايته القلعة.
لكنه منفى جديد وليس النهاية، وعليّ إذا مرة جديدة، أن أطوّر عادات وآليات للتأقلم والمواجهة. غير أن الحلم الذي مسني مرة بقي ثابتاً، وطناً حرّاً، ديمقراطيّاً، وعادلاً. وهذا المنفى، على اتساعه، لم ينجح بإسكات آلاف المصريين والمصريات. بل جعلناه جسراً ممتداً نحو الغد. وأنا واحداً منهم، حاول الطغاة قمع صوتي مرة، فصار صوتي أعلى.
نسوية مدافعة عن حقوق الإنسان من لبنان وباحثة أكاديمية في مجال الجندر، الحركات الاجتماعية، والناشطية.
Read Moreمصطفى فؤاد هو محامٍ مصري في مجال حقوق الإنسان وباحث قانوني، يعمل على ملفات العدالة والمنفى والديمقراطية والنوع الاجتماعي من خلال أبحاث مكثفة، كما شارك في تأليف دليل “المناصرة من المنفى”. مع خبرة نحو عقد من الزمن في مناصب متعددة في المجتمع المدني في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وحالياً يشغل مدير البرامج في منظمة هيومينا، وهو عازم دوماً إحداث تغيير مؤثر.
Read More